هو أبو القاسِم خلف بن عبَّاس الزَّهراوي، نِسبةً إلى مَولدِه في مدينة الزَّهراء التي بناها أمويُّو الأندلس إلى الغرب الشِّمالِي من مدينة قرطبة، عالِمٌ ومصنِّف وجرَّاح وطَبيب أَندلسي مُسلِم، عرفَه الأوروبيُّون باسم أبو القاسم Abulcasis أو Alzahravius.
يُعدُّ الزَّهراويُّ من أعظم جرَّاحي العَرب ومن أعظم أطبَّائهم، بل هو أستاذُ الجراحَة الأوَّل ونابِغَة العَرب في هذا التَّخصُّص الجراحة وأبو الجراحةَ عند العَرب وعندَ الغربيين الذين ورثوا طبَّ العرب، يومَ أن لم يكن في العالَم كلِّه طبُّ غيره في زَمانِه، مثلما جاءَ في دائرة المعارِف البريطانية.
عاشَ الزَّهراوي في الأندلس خِلال القَرن الرَّابع الهجري (العاشِر الميلادي)، فقضى حياةً مليئة بجلائل الأعمال، وترك آثاراً عظيمة. وكان طبيبَ الأمير عبد الرحمن الثَّالث المعروف بالنَّاصر، ثمَّ طبيب ابنِه الحكم الثانِي المستنصِر.
تَعودُ شهرةُ الزَّهراوي إلى كتابه "التَّصريف لمن عجزَ عن التأليف"، وهو موسوعةٌ في مختلف المعارِف الطبِّية في عصره، تقع في ألف وخمسمائة ورقة، تبحث في الطبِّ الداخلي والأدوية والأغذية والكيمياء والأقرباذين والجراحة، وهي أهمُّ أقسام الكتاب. وقد أسهمَ في نَشر الجراحة العربيَّة في جَميع البلدان الأوربية بعدَ ترجمتـه إلى اللغـة اللاتينيـة على يد جيرار الكريمونِي Gerard De Cremone في طُليطِلَة في القرن الثانِي عشر الميلادي.
لم يكن الزَّهراوي جرَّاحاً ماهراً فحسب، بل كانَ حَكيماً ذا خبرة واسعة. وقد أفردَ قِسماً مهماً من كتابه في الجراحَة لأمراض العين والأذن والحَنجَرة، وقسماً مهماً لأمراض الأسنان واللثة واللِّسان، وأمراض النساء وفنِّ الولادة والقبالة، وباباً كاملاً للجبر وعلاج الفكِّ والكسر.
اخترعَ الزَّهراوي آلة جديدة لشفاء النَّاسور الدمعي، وعالج عدداً من الأمراض بالكي، مثل الآكلة والنَّزف. والزَّهراوي هو أوَّلُ من اكتشفَ ووصفَ النَّزفَ الدموي المسمَّى النَّاعور أو الهيموفيليا.
كان تأثيرُ الزهراوي عَظيماً في أوروبا، فقد تُرجمِت كتبُه إلى لغاتٍ عديدة، ودُرِّست في جامعات أوروبا الطبِّية. واقتفى أثرَه الجرَّاحون الأوربيون، واقتبسوا عنه، حتَّى إنَّه في كثير من الأحيان انتحلوا بعضَ مُكتَشفاتِه من دون أن يذكروه كمصدرٍ لها. وكان مؤلَّفُه الكبير المرجعَ الأمين لأطبَّاء أوروبا من أوائل القرن الخامس عشر إلى أواخر القرن الثَّامن عشر.
ألحَّ الزهراوي على مباشرة التَّشريح على أنَّه ضَرورةٌ لتعلُّم الجراحة، وذلك في كتابه المذكور "التَّصريف لمن عجزَ عن التَّأليف"، حيث أشارَ إلى أهمِّية دراسته، ونصحَ بمزاولته لمن يرغب في التَّعامُل مع الجراحة.
يُروى أنَّ الزَّهراوي كان يقفَ خلفَ ستارٍ خفيف، ويُعطي إرشاداتِه المناسبةَ للقابلات في تدبير حالات الولادة العَسيرة. كما رويَ عنه أنَّه كان يَنصح بوضع مرآةٍ تحت مِقعد المرأة ليرى كلَّ شيء على هيئته.
لقد ابتدعَ الزَّهراوي كثيراً من الأدوات الجراحيَّة التي صَمَّمها بنفسه، وبيَّن لكلٍّ منها طريقة استعمالها ومكانه. ونصح بكيِّ السَّرطان، في بدء تَشكُّله، بمكواةٍ حلقيَّة. كما تكلَّم عن كيِّ النَّزف النَّاجِم عن قطع الشِّريان بربطه أو الضغط عليه. ونظراً لعدم وجود كهرباء في ذلك الوقت، كان يستخدم السخَّان، فيَعمَد إلى تَحمية أو تسخين قطعةٍ معدنية ويضعها على المنطقة المصابَة فتُؤدِّي إلى تَجمُّد الأنسجة وتوقُّف النَّزف. وهو بذلك يكون قد سبقَ الجرَّاحَ الفرنسي الشَّهير أمبرويز باريه Ambrois Pare ـ من أطبَّاء القرن السَّادس عشر وطبيب ملوك فرنسا آنذاك ـ الذي تُعزى إليه الأسبقيَّة في عملية ربط الشَّرايين بخمسة قرون.
وهو أوَّلُ من أجرى طريقةَ استئصال الحصى المثانية لدى النِّساء عن طَريق المهبل، وأوَّل من استعملَ آلاتٍ خاصَّة لتوسيع عنق الرَّحِم، وأوَّل من ابتكرَ آلةً خاصَّة للفحص النسائي لا تزال إلى يومنا هذا. كما تَكلَّم عن جراحة دوالي الخصية التي تُعرَف باسم دوالي الحبل المنوي في لغة اليوم، وعن جراحة الفُتوق. وقد وصفَ علاج الجروح النَّاجمة عن قطع سيفٍ أو سِكِّين أو طعنة رمح. وتَحدَّث عن جراحات الرأس وما يرافقها من كُسور في العظم وتَهتُّك في الأعصاب، وعن جراحات العنق والصَّدر والبطن والأمعاء وخياطتها. وتكلَّم أيضاً عن قطع الأطراف، ونشر العظام، وبتر الأعضاء، وقطع الدَّوالي وعِلاجها.
كما يُعدُّ الزَّهراوي أوَّلَ جرَّاحٍ استخدمَ الخيوطَ التي كان يستلُّها من أمعاء الحيوانات في خياطة الأمعاء، وأوَّل من استخدمَ جسور الأسنان الذهبيَّة والفضية وأدوات ضغط الأسنان، ونجحَ في معالجة تشوُّهات الفكَّين وفي تَقويم الأسنان باستخدام آلاتٍ جراحيَّة ابتكرها لهذا الهَدَف.
لقد ترجمَ جيرار الكريمونِي Gerard of Cremona كتابَ الزهراوي في القرن الثانِي عشر إلى اللاتينيَّة، كما ذكرنا، وأصبحَ هذا الكتابُ الكتابَ المدرسي المعتمَد في كلِّيات الطبِّ في أوروبا كلِّها حتَّى مطلع القرن السابع عشر. كما نقلَ الجرَّاحُ الفرنسي الشَّهير دي شولياك Guy de Chauliac كَثيراً من آراء الزَّهراوي إلى كتابه المسمَّى "الجراحة الكبرى"، واستشهدَ بآرائه أكثر من مائتي مرَّة، كما طُبِع الكتابُ أوَّلَ مرَّة في إيطاليا عام 1471 م، ثم تبعتها فيما بعد أكثرُ من عشرين طبعةً أخرى في القرن السَّادس عشر في مدن أوروبية مختلفة.
لم يُعرَف من آثار الزهراوي الهامَّة إلاَّ كتاب "التَّصريف لمن عجز عن التَّأليف" الذي يَقع في ثلاثين مقالة، تبحث في أمراض الجسم كاملة، إلاَّ أنَّ أهمَّ مقالةٍ في الكتاب هي المقالة الثَّلاثون المتعلِّقة بالجراحات، وهي التي أكسبته لقبَ أكبر جرَّاحي زمانه، والمقالةُ مزيَّنة بالرُّسوم الموضِّحة لآلات الجراحة التي صمَّمها بنفسه كما ذكرنا. وقد ترجمت عدة مرات إلى اللاتينية. ولكن هناك كتبٌ أخرى للزهراوي، مثل كتاب "نور العَين" في طبِّ العُيون و "تَفسير الأَكيال والأوزان" و "المقالة في عَمَل اليد".
جاء في كتاب "التَّصريف لمن عجز عن التَّأليف" الكثيرَ من الشُّروح والأوصاف الطبِّية التي تدلُّ على سعة علم الزَّهراوي ومَعرفته بالطبِّ؛ ومن ذلك:
- تكلَّم الزَّهراويُّ عن الأوجاع التي تحدثُ قبلَ حُدوث الطَّمث بيومين أو أكثر (أو ما ندعوه المتلازمةَ السَّابقة للطَّمث premenstrual syndrome): "وقد تَعتَري بعضُ النِّساء قبل مَجيء الطَّمث أوجاعٌ في السرَّة وكسلٌ وثِقَل في البدن، ويقلُّ الوجع حتَّى ينطلق الطمثُ ويذهب الوَجع".
- كما يقول الزَّهراوي في معرِض حَديثه عن التَّوليد: "ينبغي للقابلة أن تعرفَ أوَّلاً شكلَ الولادة الطبيعية ... فاعلم أنَّ هذه الولادةَ تكون على الشَّكل الطَّبيعي، ويكون خروجُه على رأسه والمشيمةُ معه أو معلَّقةً من سرته ... وما خلا هذه الولادة فهي غيرُ طبيعيَّة مذمومة، لأنَّه قد يخرج الجنينُ على رجليه ويُخرِج يَديه قبلَ رأسه ورجلَيه ويدَه الواحدة أو رجلَه الواحدة أو يُخرِج رأسَه ويده أو يَخرُج منطوياً وربَّما انقلبَ على قفاه ونحو ذلك من الأشكال المذمومة، فينبغي للقابلة أن تكونَ حاذقةً لطيفةً بهذه الأشياء كلِّها، وتحذر الزَّلَل والخطأَ، وأنا مُبيِّنٌ كلَّ شكل منها وكيف الحيلة فيه لتستدلَّ بذلك وتقفَ عليه".
- في حَديثه عن الكيِّ، يقول: "ولا يَقَعُ ببالكم يا بَنِيَّ ما يتوهَّمُه العامَّةُ وجُهَّال الأطبَّاء، أن الكيَّ الذي يُبرئ من مرضٍ ما، لا يكون لذلك المرض عودة أبداً، ويجعلونه لزاماً، وليس الأمرُ كما ظنُّوا، من أجل أنَّ الكيَّ إنَّما هو بمنـزلة الدَّواء الذي يُحيل المزاج، ويجفِّف الرُّطوبات التي هي سبب حُدوث الأوجاع، إلاَّ أن الكيَّ يُفضَّل على الدواء، لسرعة لحجه، وقوَّة فعله، وشدَّة سلطانه. وقد يمكن أن يعودَ المرض وقتاً ما من الزمان، على حسب مزاج العليل، وتَمكُّن مرضه وقوَّته".
- ويتكلَّم الزَّهراويُّ في السَّكتة "وهي الفالِجُ العَظيم" فيقول: "وتكون على ثلاثة ضُروب: إمَّا أن تكونَ قويةً مزمنة فلا يُبرأ منها، وإمَّا أن تكونَ ضعيفةً فيُبرأ منها وذلك في النَّدرة، وإمَّا أن تكونَ قويةً جداً فتَقتل سريعاً؛ وعلامةُ السَّكتة القوية هو أن تنقطع فيها الأفعالُ المدبِّرة الثَّلاثة: التخيُّل والفكر، والذكر، والحسُّ، والحركة من جميع الأعضاء، وجفون النَّفس، والزَّبد. ومقدِّماتُ السكتةِ الصُّداعُ الشديد، الذي يعرض بغتةً، وانتفاخ الأوداج، ودُوار وشعاعات بتخيُّل للبصر، وبرد الأطراف من غير برد الهواء، واختلاج في البدن، وعُسر في الحركة، واصطكاك الأسنان في النوم، والنسيان والبلادة".
- ويتحدَّث الزَّهراوي عن السَّرطان فيقول: "السَّرطان إنَّما سُمِّيَ سرطاناً لشَبهه بالسرطان البحري، وهو على ضربين: مبتدئ من ذاته، أو ناشئ عقب أورام حارَّة ... وهو إذا تكامل فلا علاجَ له ولا بُرءَ منه بدواء البتَّة إلاَّ بعمل اليد "الجراحة أو الكي" إذا كان في عضو يمكن استئصالُه فيه كله بالقطع ... والسَّرطان يبتدئ مثل الباقَّلاء، ثمَّ يتزايد مع الأيام حتَّى يعظمَ وتشتدُّ صلابته، ويصير له في الجسد أصلٌ كبير مستديرٌ كَمَدُ (متغيِّر) اللون، تَضرب فيه عروقٌ خُضر وسُود إلى جهةٍ منه، وتكون فيه حرارة يسيرة عندَ اللَّمس".
- ويتكلَّم الزَّهراوي عن الفرق بين سرطانين، فيقول في الفرق بين سرطان القرنية وسرطان البدن" "أنَّه إذا ما حدثَ في العين لَزِمَه وجعٌ شَديد مؤلم مع امتلاء العروق والصُّداع وسيلان الدموع الرقيقة، ويفقد العليلُ شهوةَ الطعام ولا يَحتَمل الكُحلَ، ويؤلمه الماء، وهو داءٌ لا يبرأ منه، لكن يَعالَج بما يسكِّن الوجع".
وفي صفاتِ الزهراوي، يَقول الأديبُ والمؤرِّخ "الحَميدي" في كتابه "جذوة المقتبَس في أخبار علماء الأندلس": إنَّ الزهراوي كان من أهل الفَضل والدِّين والعلم، كما ذكر آخرون أنَّه كان يخصِّص نصفَ نهاره لمعالجة المرضى مَجَّاناً قُربةً لله عزَّ وجلَّ.
ونورد فيما يلي بعض ما قيلَ عن الزهراوي:
- المستشرقة الألمانية الدكتورة زيغريد هونكه: "الزهراوي أوَّل من توصَّلَ إلى طريقة ناجحة لوقف النَّزف من الشرايين ...".
- عالم الفيزيولوجيا هالر: "كانت كتبُ أبي القاسِم المصدرَ العام الذي استقى منه جميعُ من ظَهر من الجرَّاحين بعدَ القرن الرَّابع عشر ...".
- مؤرِّخ العلم جورج سارتون: "الزهراوي أكبرُ جرَّاحي الإسلام".
- المستشرق جاك ريسلر في كتابه "الحضارة العربيَّة": "وشرحَ جرَّاحٌ كبير ـ هو أبو القاسم الزهراوي ـ علمَ الجراحة، وابتكرَ طرقاً جديدة في الجراحة امتدَّ نجاحُها فيما وراء حدود إسبانيا الإسلامية بكثير، وكان الناسُ من جَميع أنحاء العالم المسيحي يذهبون لإجراء العمليات الجراحيَّة في قرطبة".
- الدكتور أمين خير الله في كتابه "الطبِّ العربي"، وهو يقول عن كتاب التصريف: "... ومن يطالع كتابَه لا يتمالك نفسَه عن الاعتقاد بأنَّه قد شرَّح الجثثَ هو بنفسه، لأنَّ وصفَه الدَّقيق لإجراء العمليات المختلفة لا يمكن أن يكونَ نتيجة للعمليَّات فقط".